من سير الضنية وطرابلس في شمال لبنان انطلق نديم فتفت الى دول ومدن عديدة، تاركاً في كل منها بصمة ابداعية مميزة. فاصابته بشلل الاطفال لم تمنعه من المضي قدماً منذ طفولته الباكرة!
وهو حين يكون في لبنان نلتقي به يومياً في شوارع المدينة التي يصعب على شخص مثله التجول في شوارعها والتنقل بين أرصفتها، طبعاً لأنعا غير مؤهلة للأشخاص ذوي الإعاقة! الرسام والفنان نديم فتفت لا يغادر طرابلس ولم يتركها ليستقر في قريته سير في منطقة الضنية التي نشأ وترعرع فيها.
التقيت به في معرضه الأخيرالذي أقامه في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس الذي تميز بنقلة نوعية في مسيرته الفنية الطويلة التي بدأها في سني مراهقته الاولى. نتناول في اللقاء معه مسيرته الذاتية وثيمات لوحاته وتطور نظرته الفنية ومعوقات عمله كفنان.
فهو رغم عدم دراسته الفن التشكيلي فإن موهبته تبلورت في سن مبكرة في عمر ال ١٣ سنة حيث كان يدخر “خرجيته” اليومية ليشتري بها عدة الرسم، يقول: “حينذاك حيث قمت برسم لوحة من وحي الجلسات العائلية التي كانت تجمعنا حول المدفأة في شتاءات الضنية الباردة، اكتشفت أنني أرسم للتنفيس عن وضعي الذي أعاني منه حيث أصبت بشلل الأطفال عندما كان عمري ٤ سنوات وبدأت معاناتي منذ ذلك الوقت.
لكن هذا جعلني أعبر عن ذاتي بطريقة مختلفة فعملت على تطوير ذاتي وتوصلت الى ابداعات متنوعة وعديدة وابتكرت لنفسي اساليب خاصة للتطوُر والنجاح المستمرين بفضل الله وبفضل اصراري وارادتي فوصلت الى ما أنا عليه اليوم.
في بلدة سير الضنية التي يتحدث عنها بكل شغف ومحبة حيث كانت نشأته الاولى يقول نديم: “اكتشفت ذاتي الانسانية الشخصية والفنية في هذه المنطقة الجميلة قبل انتقالنا الى العيش في طرابلس الحبيبة. وأنا اليوم أمضي أيامي بينها وبين دولة الامارات العربية المتحدة التي أحمل لها في قلبي كل المحبة والعرفان حيث أعطتي الكثير وأضافت الى تجربتي ومسيرتي رصيداً كبيراً.
ربما المنطقة الجبلية التي قد ساهمت في رسم شخصيتي الفنية هي التي إكتشفتني قبل ان أكتشف نفسي، ولا بدَ أنَ تأثيرها واضح في لوحاتي على مختلف المراحل الفنية التي مررت بها حيث تحضر روحية الجبال والوديان بشكل شبه دائم”.
أمَا فيما يخص اصابته بشلل الاطفال فيقول نديم: “بصفتي فناناً مصاباً بالشلل النصفي منذ سن باكرة هذا دفعني الى تحدي نفسي وجعلني مقداماً اكثر في الحياة وان استمر بشغف. فحاولت ان اتعايش مع حالتي رغم انها تعيق بعض تحركاتي، اما من حيث القناعة فإنني متصالح جداً جداً مع نفسي واعيش برضى كامل وثقة تامة وهذا ينعكس علي بيني وبين نفسي وعلى علاقاتي بالآخرين في تعاملهم معي ويشعرون بذلك. ولم يؤثر وضعي على حياتي اليومية او مسيرتي الفنية والعملية الا فيما ندر من الحالات التي لا اتوقف عندها لا بل انني على قناعة تامة بأن الذي يريده الله هو الأصلح وانه هو ما يجب ان يكون في حياتي”.
يرفض نديم التسليم بكونه يواجه التحديات المانعة في وضعه هذا كونه يعاني من شلل الاطفال بل هو يؤكد ان: “التحديات التي تواجهني هي بيني وبين ذاتي فتدفعني الى الاستمرار لإثبات ذاتي أكثر فأكثر. وانا أبغي الوصول الى العالمية وعلى يقين بأنني سأصل الى هذا لأنني صادق مع ألواني وريشتي وأفكاري التي أترجمها على قماشتي الفنية”.
يتابع نديم متحدثاً عن معارضه الفنية التي تجوَل بها في بلاد ومدن كثيرة أثبت فيها واحداً تلو الآخر ان وضعه لم يمنعه لحظة من تحقيق ما يصبو اليه، ويقول: “من خلال النجاحات التي حققتها بين باريس ودبي، فإن هذا يحز في نفوس الكثيرين من المواطنين لا سيَما الاشخاص ذوي الإعاقة وهم في الإمارات يسمون بأصحاب الهمم. أما في لبنان فهناك تقصير كبير تجاه هذه الفئات المجاهدة في الحياة وأدعو الدولة والمسؤولين والوزارات المختصة الى السعي الى مصادقة لبنان على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي تحمي وتحفظ وتشجع أصحاب الهمم على مواصلة الحياة ومواصلة ابداعتهم حيث يتمتع الكثير منهم بمواهب مميزة بسبب اصاباتهم وتصميمهم على اثبات الذات”.
لا ينتظر نديم كما يقول: “اي مساعدة من الدولة اللبنانية بصراحة لكونها تلملم انهياراتها التي نراها عاماً بعد آخر وانا اقول ذلك بحزن شديد، وانا لم ادع اي حاجز يقف في وجه مسيرتي الا وذللته بإرادة صلبة. أتعايش مع اعمالي الفنية بشغف حيث لا أوقّع اي عمل الا إذا كان يلامس قلب الانسان وناظره واعتبر نفسي مسؤولاً تجاه محبي لوحاتي. وحين أكون في طور التحضير لمعرض جديد اضع نفسي امام مسؤولية كبيرة لكوني اريد منهم ان يعشقوا اعمالي الجديدة وانا اعشق عيونهم حينما تعبر عن الاعجاب، واتزاوج مع ألواني وقماشات لوحاتي وأتلذذ بنظرات زوَار معارضي حين تلمع إعجاباً، خاصة بالرموز التي تعيش في لوحاتي بشكل دائم وهي المخلوقات الناعمة والرقيقة وتأتي المرأة على رأس هذه الرموز بالإضافة الى الفراشة والفرس. كما تغلب الألوان الزاهية الفرحة على لوحاتي وخاصة الأبيض كبياض قلوب الناس الذين يقدرون الفن.
يتابع نديم: “على الفنان ان يكون ذو ثقافة عالية وأن يكتنز كل يوم من تواترات الناس الذين يعايشهم، وهذا ما لامسته حين زرت مصر ممثلاً لبنان في تظاهرة ثقافية مميزة كانت بعنوان “سيناء الحضارات” واكتشفت بأن الفنانين العرب لديهم مواهب عظيمة. لذلك ادعو كل المهتمين بالفن ان يميزوا بين الفنان المبدع والمثقف وبين الفنان المستهلك لوسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ويجب التمييز بين الفنان الحقيقي وبين الفنان المصطنع فالفنان الحقيقي هو الذي يتمتع بالثقافة والموهبة”.
بين لبنان والامارات يفاضل نديم في أوضاع ذوي الإعاقة أو “أصحاب الهمم” حيث يرغب ان يستعمل هذا المصطلح فيقول خاتماً حديثه بمحبة وألفة عن مدينة دبي: “هذه المدينة التي أقضي فيها شهوراً طويلة من كل عام منحتني الدفء القوي من خلال نور الشمس الساطع ومن خلال مؤسسات الدولة التي تحترم “أصحاب الهمم” الذين “يدولبون” الكراسي المدولبة لكي يستمروا في الحياة”.