“تخيّل حالك محلّن”، “حط حالك محلّن ولو لمرة، لساعة أو حتى دقيقة…” هو مجرد سؤال أو طلب بسيط “خيالي” لأي إنسان يعيش حياته بشكل عادي، لكن بساطة ذلك الطلب كانت صعبة وقاسية على كل من طُلب منه ذلك، فماذا يعني أن تتخيّل نفسك مكانهم؟ ماذا لو لم تستطع السير على قدميك يوماً، أن تعجز على أن تخطو خطوات بسيطة لتصل إلى أقرب مكان تقصده… ماذا لو لم تستطع يداك أن تحمل قلماً لتكتب ما يدور في مخيّلتك؟ وماذا لو لم تستطع اختيار لون أو شكل القميص والملابس التي تريد لأنك ببساطة لا تراها، وماذا لو لم تستطع أن ترى أحبّ الناس على قلبك، أن لا تُعبّر عن حبك لهم بالكلمات، لأن لسانك يعجز عن النطق لكن قلبك ينطق الكثير دون أن يسمعوك أو تسمعهم؟ فماذا لو لم تكن إنسان طبيعي، أي باختصار ماذا لو كنتَ واحداً من ذوي الإحتياجات الخاصة؟
“كتير صعبة”
“ما بتحمّل”، صمتت ملاك (21 عاماً) قليلاً ثم تابعت: “ممكن استسلم، ما رح اتحمّل شوف أهلي عم يعتلو همي، كتير صعبة بمجرد إني إتخيّل إنو قول ما فيي إتحرك، أو إسمع أو شوف…”.
وعندما تخيّلت ملاك نفسها في ثلاث حالات يعاني منها ذوي الإحتياجات الخاصة، قالت: “كتير صعبة اتخيل إني ما اقدر اسمع او افهم على الشخص يلي عم يحكيني، وما فيي إتحمل ما شوف الضو، عم إتخيل إذا مشيت اضرب بشي حيط أو باب، او ما شوف الطريق أو الدرج وأوقع، هيدا شي بوجّع ومحرج كتير… كيف فيهن يتحملوا هيك!!!”.
أما رضا (25 عاماً) فلم يتجرّأ على تخيّل نفسه مكانهم، قائلاً: “سكّرت عيوني للحظة ورجعت فتحتن شي صعب كتير الواحد يحط حالو محلّن”.
وخلف جرأة وعزيمة هؤلاء، وجد رضا في إعاقتهم معنى للحرية والتحدي، قائلاً: “لن أتجرأ أن أضع نفسي مكانهم لأنهم أقوى مني بإرادتهم وصبرهم وعزيمتهم وتحدّيهم للواقع والمجتمع، فهم بالنسبة لي أصحاب إرادة عزيزة وصلبة، لا بل هم مصدر إلهامنا وتفوقنا، ولا ننسى أن منهم أشخاص مثقفون ومفكرون وأصحاب إختراعات وإنجازات مهمة، وهذا ما يدفعني إلى أن أشكر الله على ما أنعمه عليّ، ونسيان أتفه المشاكل والمواقف التي نتعرض لها!!”.
أما دانيا (25 عاماً) فحاولت أن تغمض عينيها قليلاً، وسرعان ما قالت: “صراحة شي صعب، جربت غمض عيوني مش 5 دقائق، ثواني وحسيت قديه هي صعبة، وإذا كنت محلن رح واجه صعوبة بقضاء جميع إحتياجات الحياة…”.
وأكثر ما يزعج دانيا لو كانت مكانهم، هو رفضها لنظرة الناس لها، قائلة: “أصعب شي شوف الناس كيف عم تطلع فيي، وتعاملني كحالة خاصة، هيدا أصعب شي بالنسبة قلي”.
لكن ومع ذلك أضافت دانيا “لو كنت محلن ما كنت رح علّق كتير على الوضع الصحي لي رح كون في، لأن عندي قناعة إنو كل شي من ربنا منيح، وربنا أخد مني شي واكيد رح يعطيني محلو شي تاني، فأكيد ربنا بيكون عاطيهن شي محلو…”.
أما إجابة مروى (27 عاماً) فكانت شبيهة بإجابات الجميع، إلا أنها ركزت أكثر على الأوضاع المهنية، متسائلة: “كيف سأعمل لو كنت في هذه الحالة، فهل توفّر الدولة لهم فرص عمل خاصة لحالتهم؟ طبعاً لا!! ففي لبنان كمواطنة عادية لا أجد عملاً فكيف لو كنت من ذوي الإحتياجات الخاصة!!”.
“كتير صعبة” كلمتان تكررتا في كل إجابة عن سؤال طلب من الذاكرة أن تتخيّل فقدان نعمة إلهية يفتقرها الكثير من ذوي الإحتياجات الخاصة، ومع ذلك كلمة “الحمدالله” لم تفارق لا الشخص الطبيعي ولا حتى ذوي الإحتياجات الخاصة، ورغم أنها “كتير صعبة” إلا أن الغريب في هؤلاء أنهم لديهم إرادة غير عادية، إرادة إلهية قد لا نملكها، فهم صنعوا من إبتسامتهم قوة وصبر لا يساوي أي قوة لدينا، رضيوا بما قسّمه الله لهم، وتحدوا إعاقتهم، وصنعوا منها دروساً في الحياة في بلد يحرم المواطن من أبسط حقوقه، فماذا عن واقع هؤلاء في لبنان؟
واقع ذوي الإحتياجات الخاصة في لبنان
في 29 ايار عام 2000، أقرّ مجلس النواب اللبناني مشروع قانون رقم (220\2000) يتعلّق بحقوق ذوي الإحتياجات الخاصة، بحيث اعتبر لبنان نفسه من أوّل المعنيّين بحقوق هؤلاء، وفق ما ورد في نص القانون (220\2000)، والذي أقرّ بمجموعة حقوق لهم، تشمل “الخدمات الصحية وإعادة التأهيل، وتأمين بيئة مؤهَّلة، حق التنقل والمواقف ورخص السوق، حق السكن، حق التعليم والرياضة، حق العمل والتوظيف والتقديمات الاجتماعية، وحق الإقتراع، وغيرها من الحقوق الشخصية…”.
ولكن للأسف كل من يقرأ نصوص هذا القانون يُخيّل إليه أن ذوي الإحتياجات الخاصة في لبنان يتمتّعون بكافة حقوقهم وإحتياجاتهم، إلا أن الواقع عكس ذلك تماماً، فهؤلاء هم أكثر المواطنين الذين ظُلموا في الحصول على حقوقهم، والسبب إهمال الدولة، وتركهم يتحمّلون مسؤولية إعاقتهم دون إنصافهم، أو حتى تطبيق القوانين التي تنصّ على حقوقهم.
وفي عام 2006 أصدرت هيئة الأمم المتحدة اتفاقية حقوق أشخاص ذوي الإعاقة وبروتوكولها الإختياري، ودخلت الإتفاقية حيز التنفيذ عام 2008، وكان لبنان من الدول الموقّعة على الإتفاقية دون المصادقة عليها، ما يعني دون تطبيقها، والسبب حجج غير منطقية ومرور لبنان بأزمات متتالية…
ورغم مرور 11 عاماً على انطلاق هذه الاتفاقية، “لم تُعلن الحكومات اللبنانية المتعاقبة عن نيّتها سحب توقيعها، لكن عدم المصادقة يجعل من التوقيع مجرد اجراء دبلوماسي غير مكتمل”، الأمر الذي يُعيق خدمة ذوي الإحتياجات الخاصة في لبنان ويمنعهم من التّمتع بحقوقهم المنصوص عليها دوليّاً.
ومن هنا، وإنطلاقاً من السعي إلى ولادة حكومة جديدة، يُطلب من هذه الحكومة ضرورة المصادقة على الاتفاقية، وتطبيق القانون 220/2000 فعلياً كي لا نعود 19 عاماً إلى الوراء، وكي لا يُحرَم ذوي الإحتياجات الخاصة من حقوقهم 19 عشر عاماً إضافية، فكفانا عجز!!