قبل الحديث عن ضرروة واهمية انضمام لبنان الى الاتفاقية الدولية لحماية حقوق الاشخاص ذوي الاعاقة لا بد من توفر الارادة الوطنية لتكريس حقوق هذه الشريحة من اللبنانيين بكل ما يحفظ سلامتهم وامنهم الاجتماعي. ولا بد ايضا من غرس روح المسؤولية والسلوك الاخلاقي لدى الكثير من افراد المجتمع في لبنان من اجل احترام خصوصية وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان.انضمام لبنان الى الاتفاقية الدولية لحقوق الاشخاص ذوي الاعاقة ضروري ومهم وانما قد يكون وحده غير كاف لنيل هؤلاء الاشخاص حقوقهم كاملة بصورة حقيقية وواقعية.بل انه يتوجب مواكبة وتحصين ذلك بنيويا في اطار استراتيجيية وطنية لحماية هذه الحقوق من منظور انساني شامل حول هذه الافكار والعناوين تمحور لقاؤنا مع العميد البروفسور فضل ضاهر عضو الهيئة الوطنية لحقوق الانسان في لبنان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب، واستاذ الدراسات العليا في العلوم الجنائية والعقابية في الجامعة اللبنانية وفي العديد من الجامعات العربية، والخبير الدولي الرئيس المعتمد لدى الهيئات الدولية والاقليمية المعنية بالامن البشري وحقوق الانسان لاسيما في الميادين المتصلة بتعزيز حقوق الانسان وضمان حرياته الاساسية.
من اين يجب ان نبدأ في التعاطي مع ملف ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان ؟
يوجد اخطاء غير مبررة في طريقة تعاطي السواد الاعظم من فئات المجتمع مع ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو تعاط يتسم بالشفقة وتصنع التودد المرفوض منهم اصلا والذي لا يغني ولا يسمن ،وذلك خلافا لما يتوجب من مشاعر احترام ومساواة بصفتهم مواطنين اصحاب قدرات قادرين على الابتكار والابداع، ولهم، كسائر المواطنين، جميع الحقوق المكرسة دستوريا وقانونيا وأخلاقيا.وهذا الخطأ البنيوي في التقييم جرى تنميطه والتطبع بهsocialisation، بكل اسف، ليتحول ثقافة شعبية لابد من المباشرة الفورية بمعالجتها من خلال التربية والتعليم والتدريب المستمر في اطار برامج وخطط مرحلية توعوية متلائمة مع معايير القانون الانساني الدولي المستند الى المبادئ الانسانية السامية الملحوظة في المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات االدولية التي تجب ما عداها في مجالات التطبيق بما في ذلك القوانين الوضعية الوطنية.
نفهم منك ان عدم انضمام لبنان الى الاتفاقية الدولية لحقوق الاشخاص ذوي الاعاقة لا يعفيه من مسؤولياته تجاه هذه الفئة من اللبنانيين اليس كذلك؟
جوابي هو نعم وبكل تأكيد، وذلك في ضوء مقاربتي للموضوع من منظور انساني شامل باعتباره الاطار العام الذي منه ندخل الى الاطار او الاطر الخاصة وفقا لمنهجية التفكير الديكارتية السليمة. كثيرون هم من يتذرعون بمعوقات تشريعية ودبلوماسية حالت دون قيام لبنان،حتى الان، بابرام الاتفاقية الدولية لحقوق الاشخاص ذوي الاعاقة رغم كونه من اوائل الموقعين عليها، وذلك من اجل تبرير تقصيرهم حيال هذا الموضوع بالغ الاهمية. والواقع ان هذا الامر ليس قضية قانونية فقط،بل انه ذو ابعاد اخلاقية ووطنية على المستويين الفردي والاجتماعي،لاسيما وان لبنان شريك في تاسيس منظمة الأمم المتحدة وفي وضع الشرعة العالمية لحقوق الانسان،وانه،الى ذلك، قد ابرم عدة معاهدات واتفاقيات دولية تكرس مبدأ المساواة بين البشر وتحث على احترام وتعزيز حقوق الانسان التي تشمل دون ادنى شك حقوق ذوي الاعاقة.اذكر منها،في هذا السياق،الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري،المعرف في مادتها الاولى على انه “كل تمييز يستهدف او يستتبع تعطيل او عرقلة الاعتراف بحقوق الانسان والحريات الاساسية،او التمتع بها او ممارستها على قدم المساواة في الميدان الاجتماعي او الميدان الثقافي او اي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة”.فهل ابلغ من ذلك الزاما لتعزيز وحماية حقوق ذوي الاعاقة انطلاقا من هذه الاتفاقية التي صدق عليها لبنان بالقانون 44/1971 بكل مندرجاتها بما في ذلك الالتزام الصريح بتقديم تقارير سنوية حول مدى ونتائج التقيد بأحكامها!!؟
اكثر من ذلك أضيف انه قد ثبت وبحسب الاتجاهات الحديثة للعلوم الانسانية عموما والجنائية تحديدا ان جميع سكان الكرة الارضية هم من ذوي الاحتياجات الخاصة.وان هنالك رفضا تاما من قبل علماء واختصاصييي علم النفس وعلم الاجتماع لفكرة وجود انسان سوي وانسان غير سوي.واذكر هنا انني اثناء مشاركتي في احدى الندوات في جامعة السوربون سألت كبيرا من اساتذة علم النفس عن نسبة انتشار الامراض النفسية في العالم، فاجابني ان جميع البشر لديهم ما يعنيهم من هذه الامراض بشكل او بآخر نفسية ام جسدية ام نفسجسدية psycho-somatique ” .لذلك تراني اؤكد هنا ان عبارة”انسان سوي” هي مصطلح مرفوض في المعاجم الحديثة للعلوم الجنائية بمختلف تفرعاتها سواء علم النفس العام او السلوكي او الاجتماعي او المعرفي…الخ.يقودنا ذلك الى القول بان لبنان ليس مخيرا في توفير كل مستلزمات ضمان حقوق ذوي الاعاقة بمختلف اشكالها وذلك بموجب الزام اخلاقي انساني اولا،ودستوري لاسيما مبدأ المساواة المكرس في المادة السادسة من دستورنا ثانيا،ناهيكم عن موجبات الالتزام بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تتقدم على ما عداها، في هذا السياق،وفي سائر السياقات الاخرى لاسيما منها حقوق الانسان والحريات الأساسية واحترام الخصوصية الفردية
ما هي خططكم في الهيئة الوطنية لحقوق الانسان حيال هذا الملف؟
نحن في الهيئة الوطنية لحقوق الانسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب، وفي اطار توافقنا الاولي على خارطة طريق مبدئية بانتظار مباشرة مهامنا ضمن الاطر المؤسساتية المكتملة عملا باحكام القانون 62/2016 نجد:”ان الاتفاقية الدولية لحقوق الاشخاص ذوي الاعاقة تقع في صلب مسألة حقوق الانسان”. المكرسة صراحة في الدستور اللبناني كما سبق وذكرت، ولسوف نأخذ على عاتقنا متابعة هذا الموضوع بحيث يكون له حيز كبير ضمن انشطتنا وفي تقاريرنا وفي كل ما اناطه بنا القانون من مسؤوليات ومنحنا اياه من صلاحيات واسعة وشاملة لا مجال لتفصيلها هنا رغم اهمية ذلك.
الى ان يتم ابرام الاتفاقية الدولية الخاصة بحقوق الاشخاص ذوي الاعاقة هل يمكن الاستعانة بالقانون رقم 220 /2000 من اجل التعويض عن النقص الحاصل في حصول هؤلاء الاشخاص على حقوقهم ؟
ان وجود هذا القانون امر جيد،بل انه كان لابد من ايجاده وقد انقضى حوالي 18 عاما على اقراره مع تسجيل تعذر تطبيقه من الناحية العملية،مع ذلك فانني،ومع وافر الاحترام لكل الآراء حول هذا الموضوع،قد لا اتفق مع الدعوات الى اخضاعه لتعديلات شكلية لان في ذلك تبسيطا غير مبرر وغير مفيد لامر بالغ الاهمية.وبكل تواضع ارى ان فلسفة التشريع التي اوجدت القانون 220/2000 لا تتلاءم مع حقيقة وضع هذه الشريحة على النحو الذي صورته اعلاه تفصيلا في اطار المقاربة الانسانية الشاملة. فمضمونه الرعائي يحاكي التوجيه المعنوي اكثر منه اطارا قانونيا ضامنا للحقوق. لابل ان مجافاته للاتجاهات العلمية الحديثة جعلت من “بطاقة المعوق”(على سبيل المثال) بديلا عن الهوية الشخصية من نتائجها النفسية والمادية انسلاخ المعوق عن محيطه في عنونة او وصمة labeling مسيئة له وللمجتمع، في حين كان يتوجب اقتران هذه البطاقة بنظام خدمات تفاعلي ومتبادل بين المعوق ومحيطه مبني على دراسة كل حالة على حدة وبالاستناد الى ملف شخصية يعده متخصصون.من جهة ثانية،فان القراءة المتأنية لهذا القانون تبين كونه غير احترافي مشوبا بعدة ثغرات، فهو لم يلتفت الى قاعدتين اساسييتن في كيفية التعامل مع هذه الفئة من المجتمع، الاولى هي” تيسير وصولهم الى الحياة العامة” والثانية هي عملية الدمج والاندماج والتي لا بد من تكاملها مع موجب توفير سهولة العيش وضمان المشاركة بصورة فعالة وكاملة في المجتمع ناهيكم كذلك عن اتاحة امكانية الوصول والانتقال حيث يريد لاعتبار ان الفوارق شكل من اشكال التنوع(المادة 3 من الاتفاقية الدولية).صحيح ان القانون 220 تحدث في احدى مواده عن ضرورة ايجاد البيئة الهندسية المهيئة لذوي الاحتياجات الخاصة،وان هناك مرسوما تطبيقيا صدر عام 2011 بهذا الشأن،ولكن السؤال االمطروح هل ان البيئة المهيئة هي فقط البيئة الهندسية كما يتحدث المرسوم.وماذا عن البيئة الثقافية والتي يجب ان تشمل اول ماتشمل الغاء النظرة الدونية عند كثير من افراد المجتمع لللاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة،وماذا ايضا عن البيئة الخدماتية والبيئة الاجتماعية اوليس متوجبا العمل على مكافحة البطالة عند هذه الفئة من المواطنين؟ هذا مع العلم بان من اسباب هذه االبطالة،لابل السبب الاهم، ان القانون رقم 220 يفرض على المؤسسات العامة والخاصة توظيف ما نسبته 3% فقط من ذوي الاحتياجات الخاصة.مع ما يشكله ذلك من تمييز غير مبرر لاسيما وان التجارب اظهرت ان االاعاقة الحركية،مثلا، غالبا ما تكون حافزا لطاقات وخبرات ابداعية وابتكارية لا غنى للمجتمع عنها في العصر الرابع من الثورة الصناعية التكنولوجية وما انتجته من فرص عمل مستجدة في عشرات القطاعات كالذكاء الاصطناعي،التجارة الالكترونية،الحكومة الالكترونية،الروبوتيك…الخ
وفي هذا السياق، لا يفوتني التذكير بان احصائيات وزارة الشؤون الاجتماعية لعام 2016 اشارت الى وجود 97 الف شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان اي ما نسبته 3% من افراد الشعب اللبناني، وانا اقول ان هنالك معوقين غير مسجلين بحيث يصح الاعتقاد بارتفاع النسبة الى 4% تقريبا.ودون قصد التقليل من اهمية ايجاد بيئة هندسية ملائمة لذوي الاحتياجات الخاصة لاسيما على الطرقات بهدف وقايتهم من حوادث السير وتيسير وصولهم الى مقاصدهم وانجاز معاملاتهم وشؤونهم اليومية في جميع الادارات والمرافق العامة والخاصة ومنها بالطبع مراكز الاقتراع حفاظا على حقوقهم المدنية والسياسية،رغم ذلك فانه لابد من الالتفات ايضا الى امور اخرى لاتقل اهمية بهدف وقايتهم من العوز والفقر وتأكيد احترام المجتمع لهم ولقدراتهم. انا اطالب بوضع استراتيجية وطنية لحماية حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان، وهي برايي بنفس اهمية ابرام الاتفاقية الدولية الخاصة واكثر توجبا من تعديلات شكلية على القانون 220 ذي المقاربة المتراجعة بالمعايير الانسانية باجماع جميع الخبراء، شريطة ان تتضمن هذه الاستراتيجية برامج للتوعية وخططا مرحلية ولجان مراجعة وتقييم وفقا للقواعد المنهجية العلمية لأي تخطيط استراتيجي سليم.
ولا يفوتني كذلك ان اذكر امرا هاما يؤشر على مدى الاستخفاف بحقوق هذه الفئة في مجتمعنا،عنيت به حقوق ذوي الاعاقة في الوصول الى المعلومات والمعطيات والنشرات المتاحة للعموم سواء منها الرسمية ام في وسائل الاعلام على تعددها ان في معرض النشرات الاخبارية ام في معرض نقل وقائع جلسات المؤسسات الدستورية وسائر المنتديات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية…الخ.ويقيني ان توفير مستلزمات التحقيق الفوري لهذه الامور بسيط جدا ومتيسر بقليل من الجهد والتكلفة وبالحد الأدنى المطلوب من الارادة الحقيقية لاحترام حقوق جميع فئات المعوقين بالمساواة وبالعيش المستقل وبالاندماج (المادة 19 من الاتفاقية الدولية) بمن فيهم النساء المعوقات المحفوظة حقوقهن بالمادة 6 من الاتفاقية الدولية والغائب ذكرهن كليا عن القانون 220/2000 بالرغم من كونهن نصف المجتمع الذي ينجب النصف الآخر ويسهر على تنشئته فتكتمل الخليقة!!
امام كل ما تقدم يبقى الانضمام الى الاتفاقية الدولية لحقوق الاشخاص ذوي الاعاقة الطريق الانسب لحصول هؤلاء على حقوقهم هل هذا صحيحا؟!!
انا شخصيا ارى مصلحة كبيرة للبنان في ايجاد الوسائل التشريعية والاجرائية لاستلحاق انضمامه الى هذه االاتفاقية الدولية، وذلك من اجل تحسين صورة مجتمعنا ووطننا لدى المحافل الدولية وليس من منظار مادي نفعي كما يرى البعض ممن يعتبرونها وسيلة لتأمين المساعدات المادية لهذه الفئة من اللبنانيين من قبل الهيئات المانحة.وحري بنا التعامل مع حتمية الانضمام الى الاتفاقية لما تتضمنه من امور اكثر تطورا واكثر تخصصا واكثر تخطيطا وترشيدا في التعامل مع الاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة من العديد غيرها من الاتفاقيات الدولية والاقليمية ذات الصلة ونفس الاهتمام، وانما في صياغات عامة وشاملة من حيث نطاق الانطباق والاهداف المباشرة وآليات المراقبة والمتابعة…الخ.
من جهة ثانية وأخيرة،لابد من اعادة التذكير بان نظرة المجتمع الدولي الى لبنان حول كيفية تعاطيه مع ملف الاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة لن تقتصر على مبادرته للانضمام الى هذه الاتفاقية الدولية بل تتعداها الى اثبات التزامه بصيانة وترقية حقوق الانسان وتعزيز الحريات الاساسية، في مقاربة منهجية شاملة تحول دون اي شكل من اشكال انتهاك حقوق الانسان عموما، الامر الذي يشمل،دون شك، الاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة للأسباب التي ذكرتها في بداية حديثي.
ماذا تقول اخيرا؟
انا ادعو الى اعطاء الاولوية القصوى لمعالجة اشكاليات ظاهرة تهميش دور هذه الفئة من المواطنين خلافا لكل المواثيق والدساتير والقوانين والشرائع، لاسيما وان الوقائع تثبت ان هنالك مجموعات كبيرة من ذوي الاحتياجات سجلت نجاحات ابتكارية وابداعية مذهلة في مختلف الميادين الفكرية والعلمية وسائر حقول الخدمة العامة، بما في ذلك انشطة العدالة الاجتماعية وحكم القانون وبقدر من المسؤولية يتجاوز غالبا تقديمات مهمشيهم. لذلك ارى من المعيب تضييق نطاق الافادة من هذه القدرات الى نسب معينة غير مطبقة لا تتجاوز 3% كما جاء في القانون رقم 220/2000 .
ولأن اصوات ممثلي هذه االفئة التي تترجم معاناتهم في بلد يطمح الى استعادة دوره الرسالي في معارج الحضارة الانسانية، تظل ابلغ واكثر صدقا من محاضراتنا وحواراتنا وترسم اقصر الطرق لتحقيق هذا الطموح ولو في حدوده الدنيا،فاني ادعو كل ذي ضمير حي ومسؤول الى الاصغاء لنداءاتهم شبه اليومية والتفاعل معها بكل ايجابية وواقعية لاعتبارها من أولويات تحقيق استقرار المجتمع وتنميته على أسس وقواعد سليمة ومتلائمة مع الاتجاهات الدولية الحديثة لاسيما في ضوء تقرير امين عام الأمم المتحدة حول الألفية واهداف التنمية المستدامة.